فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والأرض المقدسة هي المطهرة من الآفات، وقيل من الشرك. وزيف بأنها لم تكن وقت الجبارين كذلك. وأجيب بأنها كانت كذلك فيما قبل لأنها كانت مسكن الأنبياء. ثم إنها ما هي؟ فعن عكرمة والسدي وابن زيد هي أريحاء. وقال الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقيل: الطور وما حوله. وقيل: بيت المقدس. وقيل: الشام ومعنى {كتب الله لكم} وهبها لكم أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم أو أمركم بدخولها. قال ابن عباس: كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم. وقيل: المراد خاص أي مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم. وقيل: إن الوعد كان مشروطًا بالطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. وقيل: حرمها عليهم أربعين سنة فلما مضى الأربعون حصل ما كتب. وفي قوله: {كتب الله لكم} تقوية القلبو وأنّ الله سينصرهم مع ضعفهم على الجبارين مع قوّتهم. {ولا ترتدوا على أدباركم} لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه السلام وإخباره بهذه النصرة، أو لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى التي خرجتم عنها. فقد روي أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مصر {فتنقلبوا خاسرين} في الآخرة يفوت الثواب ولحوق العقاب، أو فترجعوا إلى الذل أو تموتوا في التيه غير واصلين إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة. والجبار «فعال» من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وهو اختيار الفراء والزجاج. قال الفراء: لم أسمع «فعالًا» من «أفعل» إلاّ في حرفين: جبار من أجبر، ودراك من أدرك. ويقال: نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها. والقوم الاستبعاد {إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} كقوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40] {قال رجلان} هما يوشع وكالب {من الذين يخافون الله أنعم الله عليهما}.
أي بالهداية والثقة بقوله والاعتماد على نصره ومحل {أنعم الله} مرفوع صفة لرجلان. ويحتمل أن يكون جملة معترضة. قال القفال: يجوز أن يكون الضمير في {يخافون} لبني إسرائيل والعائد إلى الموصول محذوف تقديره من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون فعلى هذا الرجلان من الجبارين {ادخلوا عليهم الباب} مبالغة في الوعد بالنصر والظفر كأنه قال: متى دخلتم باب بلدهم لم يبق منهم نافخ نار ولا ساكن دار {فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} علموه ظنًا أو يقينًا من عادة الله في نصرة رسله عامة ومن صنعه لموسى عليه سلام في قهر أعدائه خاصة {وعلى الله فتوكّلوا} الفاء للإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها.
والمعنى لما وعدكم الله النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من عظم أجسامهم بل توكلوا على الله: {إن كنتم مؤمنين} مقرين بوجود الإله القدير، موقنين بصحة نبوّة موسى {قالوا إنّا لن ندخلها} نفوا دخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس وزادوا في التأكيد بقولهم: {أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك} قال العلماء: لعلهم كانوا مجسمة يجوّزون الذهاب والمجيء على الله تعالى أو أنهم لم يقصدوا حقيقة الذهاب كقولك: «كلمته فذهب يجيبني» يريد القصة والإرادة. وقيل: المراد بالرب أخوه هارون وسموه ربًا لأنه أكبر من موسى. وقيل: التقدير اذهب وربك معين لك بزعمك ولكن لا يجاوبه. قوله: {فقاتلا} ولا يبقى لقوله أنت فائدة واضحة. ولا يخفى أنّ هذا القول منهم كفر أو فسق فلهذا قال موسى على سبيل الشكوى والبث {ربي إني لا أملك إلاّ نفسي وأخي} قال الزجاج: في إعرابه وجهان: الرفع على موضع إني والمعنى أنا لا أملك إلاّ نفسي وأخي كذلك، أو نسقًا على الضمير في {أملك} أي لا أملك أنا وأخي إلاّ أنفسنا. والنصب على أنه نسق على الياء أي إني وأخي لا نملك إلاّ أنفسنا، أو على نفسي أي لا أملك إلاّ نفسي ولا أملك إلاّ أخي، لأنّ أخاه إذا كان مطيعًا له فهو مالك طاعته، وكأنه لم يثق بالرجلين كل الوثوق فلهذا لم يذكرهما، أو لعله قال ذلك تقليلًا لمن يوافقه، أو أراد من يؤاخيه في الدين. {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله: {ونجني من القوم الظالمين} [التحريم: 11] أو المراد فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لكل منا بما يستحق وهو في معنى الدعاء عليهم بدليل فاء التسبيب في قوله: {فإنها} أي الأرض المقدسة {محرمة عليهم أربعين سنة} ثم يفتحها الله لهم من غير محاربة. أو المراد أنهم يتيهون أربعين سنة ومعنى يتيهون يسيرون متحيرين. عن مقاتل أن موسى عليه السلام لما دعا عليهم فأخبره الله بأنهم يتيهون قالوا له: لم دعوت علينا وندم على ما عمل فأوحى الله إليه: {فلا تأس} أي لا تحزن ولا تندم {على القوم الفاسقين} فإنهم أحقاء بالعذاب لفسقهم. وجوّز بعضهم أن يكون ذلك خطابًا لمحمد صلى الله عليه وسلم أي لا تحزن على قوم لم تزل مخالفة الرسل هجيراهم.
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أنّ موسى وهارون هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم: إنهما ما كانا في التيه لأنه دعا أن يفرق بينه وبينهم وكل نبي مجاب، ولأن التيه عذاب والأنبياء لا يعذبون، ولأنّ سبب ذلك العذاب التمرد وهما لم يتمرّدا. وقال آخرون: إنهما كانا مع القوم إلاّ أنّ الله تعالى سهل عليهم ذلك العذاب كما أن النار كانت على إبراهيم بردًا وسلامًا.
ثم من هؤلاء من قال: إنّ هارون عليه السلام مات في التيه ومات موسى عليه السلام بعده فيه بسنة، ودخل يوشع عليه السلام أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته، ومات النقباء في التيه بغتة بعقوبات غليظة إلاّ كالب ويوشع. ومنهم من قال: بل بقي موسى عليه السلام بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله تعالى أعلم. واختلفوا أيضًا في التيه وهي المفازة التي تاهوا فيها فقال الربيع: مقدار ستة فراسخ. وقيل: تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخًا. وقيل: ستة في اثني عشر. وقيل: كانوا ستمائة ألف فارس. ثم الأكثرون على أنّ قوله: {فإنها محرمة} تحريم منع كانوا يسيرون كل يوم على الاستدارة جادّين حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان مع ذلك نعمة الله عليهم من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك متظاهرة كالوالد الشفيق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولكن لا يقطع عنه معروفه وإحسانه. ويشكل هذا القول بأنه كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في ذلك القدر الصغير من المفازة سنين متطاولة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يهتدي طريقًا للتيه ولو بأمارات حركات النجوم؟ والجواب أنّ هذا من الخوارق التي يجب التصديق بها كسائر المعجزات التي يستبعد وقوعها. وقال بعضهم: إنّ هذا التحريم تعبّد وإنه تعالى أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة عقابًا لهم على سوء صنيعهم وعلى هذا فلا إشكال. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم. إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين. يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين}.
وإننا لنلمح في كلمات موسى عليه السلام إشفاقه من تردد القوم ونكوصهم على الأعقاب. فلقد جربهم من قبل في «مواطن كثيرة» في خط سير الرحلة الطويل.. جربهم وقد أخرجهم من أرض مصر؛ وحررهم من الذل والهوان، باسم الله وبسلطان الله الذي فرق لهم البحر، وأغرق لهم فرعون وجنده. فإذا هم يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم. فيقولون {يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة}.. وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري من الحلي التي سرقوها معهم من نساء المصريين عجلًا ذهبا له خوار؛ ثم إذا هم عاكفون عليه يقولون: إنه إله موسى الذي ذهب لميقاته!.. وجربهم وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء، وأنزل عليهم المن والسلوى طعامًا سائغًا، فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر- أرض الذل بالنسبة لهم- فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها، ولا يصبرون عما ألفوا من طعام وحياة في سبيل العزة والخلاص، والهدف الأسمى، الذي يسوقهم موسى إليه وهم يتسكعون!.
وجربهم في قصة البقرة التي أمروا بذبحها فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة والتنفيذ.. {فذبحوها وما كادوا يفعلون}! وجربهم وقد عاد من ميقات ربه ومعه الألواح وفيها ميثاق الله عليهم وعهده. فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم- بعد كل هذه الآلاء وكل هذه المغفرة للخطايا- ولم يعطوا الميثاق حتى وجدوا الجبل منتوقًا فوق رؤوسهم، {وظنوا أنه واقع بهم} لقد جربهم في مواطن كثيرة طوال الطريق الطويل.. ثم ها هو ذا معهم على أبواب الأرض المقدسة. أرض الميعاد التي من أجلها خرجوا. الأرض التي وعدهم الله أن يكونوا فيها ملوكًا، وأن يبعث من بينهم الأنبياء فيها ليظلوا في رعاية الله وقيادته..
لقد جربهم فحق له أن يشفق، وهو يدعوهم دعوته الأخيرة، فيحشد فيها ألمع الذكريات؛ وأكبر البشريات، وأضخم المشجعات وأشد التحذيرات: {يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم. إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين. يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين}.
نعمة الله. ووعده الواقع من أن يجعل فيهم أنبياء ويجعلهم ملوكًا. وإيتاءه لهم بهذا وذلك ما لم يؤت أحدًا من العالمين حتى ذلك التاريخ. والأرض المقدسة التي هم مقدمون عليها مكتوبة لهم بوعد الله. فهي إذن يقين.. وقد رأوا من قبل كيف صدقهم الله وعده. وهذا وعده الذي هم عليه قادمون.. والارتداد على الأدبار هو الخسران المبين..
ولكن إسرائيل.، هي إسرائيل!!! الجبن. والتمحل. والنكوص على الأعقاب. ونقض الميثاق: {قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون}.
إن جبلة يهود لتبدو هنا على حقيقتها، مكشوفة بلا حجاب ولو رقيق من التجمل. ذلك أنهم أمام الخطر؛ فلا بقية إذن من تجمل؛ ولا محاولة إذن للتشجع، ولا مجال كذلك للتمحل. إن الخطر ماثل قريب؛ ومن ثم لا يعصمهم منه حتى وعد الله لهم بأنهم أصحاب هذه الأرض، وأن الله قد كتبها لهم- فهم يريدونه نصرًا رخيصًا، لا ثمن له، ولا جهد فيه. نصرًا مريحًا يتنزل عليهم تنزل المن والسلوى!
{إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون}.
ولكن تكاليف النصر ليست هكذا كما تريدها يهود! وهي فارغة القلوب من الإيمان!
{قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}.
هنا تبرز قيمة الإيمان بالله، والخوف منه.
فهذان رجلان من الذين يخافون الله، ينشيء لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم! وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة؛ وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس. فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين: مخافته- جل جلاله- ومخافة الناس.. والذي يخاف الله لا يخاف أحدًا بعده؛ ولا يخاف شيئًا سواه..
{ادخلوا عليهم الباب. فإذا دخلتموه فإنكم غالبون}.
قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب.. أقدموا واقتحموا. فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم؛ وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم..
{وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}.
فعلى الله- وحده- يتوكل المؤمن. وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته؛ وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه.. ولكن لمن يقولان هذا الكلام؟ لبني إسرائيل؟!
{قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها. فاذهب أنت وربك فقاتلا. إنا هاهنا قاعدون}.
وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون؛ ويفزعون من الخطر أمامهم فيرفسون بأرجلهم كالحمر ولا يقدمون! والجبن والتوقح ليسا متناقضين ولا متباعدين؛ بل إنهما لصنوان في كثير من الأحيان. يدفع الجبان إلى الواجب فيجبن. فيحرج بأنه ناكل عن الواجب، فيسب هذا الواجب؛ ويتوقح على دعوته التي تكلفه ما لا يريد!
{فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}.
هكذا في وقاحة العاجز، الذي لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان! أما النهوض بالواجب فيكلفه وخز السنان!